Home » شرطة لندن تواجه الماسونية: معركة الشفافية تصل إلى القضاء

شرطة لندن تواجه الماسونية: معركة الشفافية تصل إلى القضاء

شرطة لندن تواجه الماسونية: معركة الشفافية تصل إلى القضاء

لم يكن قرار شرطة المتروبوليتان بإلزام ضباطها بالكشف عن أي عضوية حالية أو سابقة في الماسونية مجرد إجراء إداري داخلي، بل فتح باباً لمواجهة قضائية مباشرة وأعاد الماسونية إلى واجهة النقاش العام في بريطانيا، بعد سنوات من بقائها في الظل بين الغموض والأساطير والجدل السياسي.

تساؤلات حول نزاهة الشرطة

فجأة، لم يعد السؤال محصوراً في “نزاهة الشرطة”، بل اتسع ليشمل ماهية الماسونية نفسها، تاريخها، حجم نفوذها، والأسباب التي تجعلها تثير الريبة لدى مؤسسات الدولة وقطاعات واسعة من الرأي العام.

ما هي الماسونية.. ومن أين جاءت؟

الماسونية، وفق تعريفها الرسمي، هي منظمة أخوية قديمة الجذور، تعود أصولها الحديثة إلى بريطانيا في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حيث تحولت نقابات البنّائين التقليدية إلى جمعيات فكرية وأخلاقية.

في عام 1717، تم تأسيس “المحفل الأكبر في لندن”، وهو الحدث الذي يُعتبر نقطة الانطلاق الرسمية للماسونية الحديثة في العالم.

تقدّم الماسونية نفسها كمنظمة غير سياسية وغير دينية، تقوم على قيم “الأخوة، الإحسان، والاستقامة الأخلاقية”، وتشترط على أعضائها الإيمان بوجود “قوة عليا” دون تحديد ديانة معينة.

تُعقد اجتماعاتها في محافل محلية، ضمن هيكل هرمي واضح، تحكمه طقوس ورموز تقليدية، تُفسَّر من داخلها كأدوات تعليم أخلاقي، بينما تُعتبر من الخارج مصدراً للغموض والريبة.

الحجم والانتشار والتأثير

بحسب بيانات رسمية صادرة عن الماسونية نفسها، يُقدَّر عدد أعضائها عالمياً بعدة ملايين، بينما يضم المحفل الأكبر في إنجلترا وحده نحو 200 ألف عضو، مما يجعله أحد أكبر التنظيمات الأخوية في أوروبا.

تاريخياً، ضمّت الماسونية في صفوفها سياسيين، قضاة، ضباطاً، وأكاديميين، مما غذّى الاعتقاد بوجود تأثير غير معلن لها داخل مؤسسات الدولة.

المنظمة تنفي باستمرار أي دور سياسي منظم، وتؤكد أن أعضاءها ينتمون إلى مختلف التوجهات، وأن المحافل تُمنع رسمياً من مناقشة السياسة أو الدين.

ومع ذلك، تقر بأن الروابط الأخوية القوية بين الأعضاء تشكل جزءاً أساسياً من هويتها، مما يثير مخاوف مستمرة حول تضارب الولاءات، خاصة عندما يكون العضو موظفاً عاماً أو ضابط شرطة أو قاضياً.

كيف تعمل الماسونية وما أهدافها المعلنة؟

العمل الماسوني يقوم على نظام محافل محلية، لكل منها استقلال نسبي، لكنها تخضع في النهاية لإشراف المحفل الأكبر.

يتم الانضمام عبر تزكية عضوين قائمين، ثم المرور بمراحل رمزية تُسمّى “درجات”، لكل درجة طقوسها ودروسها الأخلاقية.

تتركز الأهداف المعلنة حول “تحسين الفرد ليكون مواطناً أفضل”، ودعم الأعمال الخيرية، حيث تشير تقارير بريطانية رسمية إلى أن الماسونية تُعتبر من أكبر الجهات الخيرية غير الحكومية في المملكة المتحدة من حيث حجم التبرعات السنوية.

هذا الخطاب الأخلاقي والخيري هو ما تعتمد عليه الماسونية في الدفاع عن نفسها أمام الانتقادات، مؤكدة أنها جمعية مدنية مشروعة، وليست تنظيماً سرياً بالمعنى السياسي أو الاستخباراتي.

من معها ومن ضدها.. ولماذا يستمر الجدل؟

المدافعون عن الماسونية، ومن بينهم أكاديميون وشخصيات عامة، يرون أن الهجوم عليها يقوم في كثير من الأحيان على صور نمطية ونظريات مؤامرة قديمة تعود إلى القرن التاسع عشر.

ويشير هؤلاء إلى أن عدم وجود أدلة قضائية تثبت تورط الماسونية كمنظمة في قضايا فساد كبرى يجب أن يكون كافياً لوقف “شيطنتها المؤسسية”.

في المقابل، يرى منتقدوها، ومنهم صحفيون وناشطون في مجال الشفافية، أن المشكلة لا تكمن في وجود مؤامرة منظمة، بل في طبيعة التنظيم نفسها.

فوجود شبكة أخوية مغلقة داخل مؤسسات الدولة، خصوصاً أجهزة إنفاذ القانون، يُعتبر بنظرهم خطراً بحد ذاته، لأنه يقوّض مبدأ المساواة أمام القانون ويوجد شعوراً بأن بعض الأعضاء “محميون” بعلاقات غير مرئية.

هذا الانقسام في الرأي العام هو ما جعل الماسونية حاضرة بقوة في تقارير رسمية مثل تقرير لجنة دانييل مورغان، الذي لم يتهمها مباشرة، لكنه أكد أن مجرد وجودها داخل جهاز الشرطة كان كافياً لتقويض الثقة العامة.

لماذا تعود الماسونية إلى الواجهة الآن؟

قرار شرطة لندن لا يستهدف الماسونية كعقيدة أو جمعية أهلية، بل يعاملها باعتبارها “ارتباطاً قابلاً للتأثير” يجب الإفصاح عنه.

ومع ذلك، فإن إدراجها بالاسم أعاد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: هل تستطيع الديمقراطيات الحديثة التوفيق بين حرية الانتماء الخاصة ومتطلبات الشفافية الصارمة في المؤسسات العامة؟

المعركة القضائية الدائرة اليوم لا تتعلق فقط بحقوق أعضاء الماسونية، بل ترسم حدوداً أوسع لما يمكن أن تطلبه الدولة من موظفيها. فإذا أُقرّ مبدأ الإلزام، قد يمتد لاحقاً إلى جمعيات ونوادٍ وشبكات أخرى. وإذا أُلغي، فسيُنظر إليه على أنه انتصار لخصوصية الفرد على حساب “الانطباع العام”.

بين تاريخ طويل من الغموض، وخطاب أخلاقي خيري، وشكوك لم تُحسم منذ عقود، تقف الماسونية مرة أخرى في قلب نقاش بريطاني حساس. قضية شرطة لندن ليست مجرد صدام قانوني، بل مرآة لصراع أعمق بين الثقة والريبة، بين ما هو مشروع قانوناً وما هو مقبول سياسياً.

وفي بلد ما زال يتعامل مع إرث قضايا مثل دانييل مورغان، يبدو أن السؤال لم يعد “هل الماسونية مذنبة؟” بل “هل تستطيع الدولة تجاهل أثرها الرمزي على الثقة العامة؟”

المصدر: https://www.skynewsarabia.com/world/1843419-%D8%B4%D8%B1%D8%B7%D8%A9-%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%86-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B5%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1

About طارق الزبيدي

طارق الزبيدي خبير في التحليل السياسي من العراق، له أكثر من 20 سنة من الخبرة في الإعلام والتحليل الإخباري. بدأ مسيرته الصحفية في جريدة الصباح العراقية قبل أن ينتقل للعمل مع وسائل إعلام عربية كبرى، يركز على تقديم رؤى معمقة حول الوضع السياسي في الشرق الأوسط.

View all posts by طارق الزبيدي →

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *